◄استنكره الأزهر والكنيسة.. ومسلمون تحرشوا بأقباط فى بنها والصعيد ومصر القديمة
◄رياض قتل فتحية عام 1976 ثم أطلق النار على نفسه ونازلى ارتدت إلى الكاثوليكية تنفيذاً لندر قطعته على نفسها
يمتلك الكاتب الكبير صلاح عيسى قدرة فائقة فى التقاط أحداث تاريخية تبدو على هامش السرد التاريخى التقليدى، ويعطيها عمقا اجتماعيا وسياسيا فيحولها إلى عماد رئيسى فى صنع الزمن الذى وقعت فيه هذه الأحداث، ومن هذه الخلفية يكتسب صلاح عيسى وبحق صفة المؤرخ الذى يقدم لنا التاريخ كوجبة شهية تغذى القلب والعقل، وتسد العجز فى المكتبة العربية.
وفى أحدث كتبه «البرنسيسة والأفندى» الصادر عن دار الشروق يلتقط حدث زواج الأميرة فتحية شقيقة الملك فاروق من رياض، وذلك فى عام 1950، ويغوص فى القصة كعادته ليعطيها خلفيتها الاجتماعية والسياسية بالدرجة التى تؤكد أن الحدث لم يكن عابرا، وإنما هز عرشا، لم يكن الموضوع مجرد زواج وكفى المؤمنين شر القتال، وإنما زواج طرفه زوج مسيحى وزوجة مسلمة، وهذا جانب دينى، وزواج طرفه زوجة «أميرة» من الدم الأزرق، وزوج من طبقة أقل وكل مؤهلاته الوظيفية أن الملكة نازلى اختارته سكرتيرا خاصاً ومستشارا سياسياً لها بعد سفرها إلى أمريكا، تغلغل الحدث فى تأثيره وامتد إلى الأحزاب السياسية، وكاد يصنع فتنة طائفية، من المفيد أن نرصد تداعياته السلبية الآن، ومنه نفهم أيضاً كيف كان يتصرف الملك فاروق، وفى المواجهة أمه الملكة نازلى التى يبدو من كل سطر فى الكتاب أنها سيدة الظل فى كل ما حدث منذ تولى ابنها فاروق العرش عام 1936، ورغم أن الكتاب يحتوى على الكثير والكثير فإننا نتوقف أمام محطة الحدث من زاويته الطائفية، وقبلها مقدمات الأزمة.
تلقى الملك فاروق خبر اعتزام الزواج بصدمة كبيرة، وارتفعت نافورة غضبه الغاضبة أصلا على والدته الملكة نازلى التى كانت مقيمة فى أمريكا مع ابنتها وشقيقته فتحية والأميرة فائزة، وهناك وافقت على تزويج فتحية من رياض غالى «المسيحى».
كان الخبر كفيلا بالتهييج والتحريض والغضب على أكثر من وجه، فمن يكرهون الملك استخدموا القصة ضده، ومن يحبونه زادوا من أسنتهم ضد أمه الملكة نازلى، وبين هؤلاء ذهبت الصحف مذهبها فى التناول طبقا لمواقفها السياسية المسبقة، وبعضها تناول الأمر من زاوية طائفية على اعتبار أن الزوج مسيحى والزوجة مسلمة، وفى السياق أيضا أخذت القضية أبعادا تتعلق بطبيعة الحسب والنسب لكليهما، فالأميرة هى من أصحاب الدم الأزرق، و«العريس» ليس كذلك، فهل يجوز الاختلاط بينهما؟
التهييج والتحريض والغضب شمل إلى جانب الصحف، المؤسسات الرسمية والشعبية من برلمان وأحزاب وأزهر وكنيسة وغيرها، ومن بين كل هؤلاء احتل مجلس البلاط أهمية كبرى فى المواجهة نظرا لأنه كان بمثابة محكمة تتولى دون غيرها كل اختصاصات القضاء المدنى والقضاء الشرعى والمجالس الحسبية فيما يتعلق بالأمراء والأميرات والنبيلات وأعضاء الأسرة المالكة، ومن هذه الخلفية رفع الملك فاروق القضية إلى المجلس لاتخاذ قرار بشأنها وعقد المجلس اجتماعه يوم 16 مايو 1950 لمناقشة ما جاء فى مذكرة الملك التى نصت على الآتى:
«سافرت والدتنا (نازلى) فى صيف 1946 إلى الخارج للمعالجة، واصطحبت معها شقيقتنا «فائقة» و«فتحية»، ويقمن جميعا الآن فى أمريكا ولطول إقامتهن بعيدا عنا، ولصغر سن شقيقتينا ولحالة والدتنا المرضية والنفسية، فقد وقعن جميعا فى شراك بعض من يتصلون بهن، وقد دعوتهن مرارا للعودة بعد إتمام العلاج فلم يذعن، وكان من نتيجة ذلك كله:
أولا.. أتمت والدتنا زواج شقيقتنا «فتحية» التى لم تبلغ سن الرشد ولاتزال تحت وصايتها، بمن يدعى رياض غالى المسيحى الديانة، والذى تقول والدتنا إنه سيشهر إسلامه قبل الزواج، وقد دلت التحريات على سوء سيرته وما أن علمنا بهذا الاعتزام حتى بذلنا المساعى المشار إليها لتلافى هذا الزواج قبل وقوعه، وقد أبلغ سفيرنا فى أمريكا ديواننا بتفصيلات مسعاه لدى والدتنا، فكان ردها عليه، أنه يسعدها ألا يكون صهرها من عائلة مالكة، أو ممن يقال عنه من عائلات عريقة، كما صرحت بأنه لا تهتم بما ينشأ عن هذا الزواج من نتائج، وأنها لا يمكن أن تعدل عن رأيها، وقد بعثنا إليها ببرقية أوضحنا فيها ما يساورنا من الألم، ودعوناها أن تقدر ما ينشأ عن تصميمها على ما اعتزمته من سوء العواقب، فوصلنا منها فى نفس اليوم برقية تقول فيها، بأن عاطفة الأمومة لديها مقدمة على كل اعتبار عام، وهذه المساعى كلها لم تحل دون إصرار والدتنا وشقيقتنا على تنفيذ ما اعتزمتاه، ووقعت المأساة فعلا بإتمام الزواج المدنى يوم 10 من شهر آيار مايو الحاضر (1950).
ثانيا: من يوم سفر والدتنا وشقيقتينا من مصر بلغ مقدار ما صرف إليهن من النقود مبلغ 483.831 جنيها صرف من ذلك مبلغ 178,667 جنيها لحساب والدتنا عن طريق نظارة خاصتنا، ومبلغ 130.000 لحسابها أيضا، عن طريق وكيلها «إلهامى حسين باشا» 174.741 جنيها لحساب شقيقتينا مناصفة بينهما، وعلمنا أن من المبالغ التى صرفت إليهن أودع مبلغ 37,750 جنيها فى البنك الأهلى بمصر لحساب رياض غالى أفندى، وبذلك أصبحت أموالهن عرضة للضياع، ومن أجل ذلك كله، نود أن نقف على ما يشير به المجلس من إجراءات:
أولا: نحو زواج شقيقتنا «فتحية» من رياض غالى أفندى.
ثانيا: نحو والدتنا وشقيقتنا «فتحية وأموالها».
جاءت هذه المذكرة كاشفة للحدث من ناحية موقف فاروق منه، بالإضافة إلى موقف والدته وشقيقته،وجاء ت قرارات «البلاط الملكى» بعد مناقشة مذكرة الملك لتزيد من اشتعال الموقف بين كل الأطراف، وقبل تناول ذلك يستعرض صلاح عيسى تلك القرارات، التى جاءت على النحو التالى:
◄ من حيث إن زواج المسلمة من غير مسلم باطل بطلانا أصليا، ولا يترتب عليه أثر من آثار الزوجية طبقا لأحكام الشريعة الإسلامية، ومن حيث إنه إذا أسلم شخص فعلا وتزوج بمسلمة عريقة فى الإسلام فإن هذا العقد إذا حصل بغير رضا الولى لا يصح، ولذلك قرر المجلس التفريق فورا بين حضرة صاحبة السمو الملكى الأميرة «فتحية» وبين رياض غالى أفندى بالحيلولة بينهما، ووضعت تحت يد حضرة جلالة الملك للمحافظة عليها إلى أن يفصل فى الدعوة، وعلى السلطات المختصة اتخاذ الإجراءات الكفيلة بتنفيذ ذلك.
◄ قرر المجلس منع حضرة صاحبة الجلالة الملكة نازلى من التصرف فى أموالها، وتعيين حضرة صاحب السعادة نجيب سالم باشا، ناظر خاصة جلالة الملك، مديرا مؤقتا على جميع أموالها إلى أن يفصل فى طلب الحجر.
◄ قرر المجلس وقف حضرة صاحبة الجلالة الملكة نازلى عن أعمال الوصاية على حضرة صاحبة السمو الملكى الأميرة فتحية، وتعيين سعادة نجيب سالم باشا وصيا مؤقتا لإدارة أموالها إلى أن يفصل فى طلب عزل صاحب الجلالة الملكة نازلى عن الوصاية.
◄ أبدى المجلس رغبته فى أن تعود حضرة صاحبة السمو الملكى الأميرة فائقة إلى مصر فورا، فإن لم تفعل يشر المجلس بالنظر فى أمرها.
وعلى أثر قرارات البلاط الملكى قرر الملك فاروق حرمان شقيقته فتحية من لقب الإمارة وما يتبع ذلك من حقوق ومزايا، بالإضافة إلى شطب اسمها من كشف أسماء الأميرات المدرجات فى الوقائع المصرية.
أسهمت هذه القرارات فى تأجيج الصراع بين الملكة الأم (نازلى) وبين الملك الابن (فاروق)، وأخذت عناوين رئيسية فى الصحف المصرية والعربية والعالمية، وفى نفس الوقت كما يقول صلاح عيسى إنه كان مفهوما أن كلا من الملكة والأميرة ورياض غالى، لن يغامروا بالحضور إلى القاهرة، ورغم ذلك طبقت شكليات القانون، فأرسلت سكرتارية «مجلس البلاط» الإعلان الموجه إلى الثلاثة إلى وزارة الخارجية المصرية لتبلغهم إياه رسميا وعن الطريق الدبلوماسى، وتكلفهم بالحضور أمام جلسة «مجلس البلاط الملكى» المحدد انعقادها يوم 31 يوليو 1950 للاستماع إلى أقوالهم فى الطلب المقدم من «نجيب باشا سالم» ناظر خاصة جلالة الملك، ونيابة عن جلالته بعزل حضرة صاحبة الجلالة «الملكة نازلى» عن الوصاية على ابنتها القاصر فتحية هانم فؤاد، وتوقيع الحجر على جلالتها وببطلان زواجها من رياض أفندى.
تسلم مدير الفندق الذى تقيم فيه الملكة نازلى الإعلان، وكان رد فعل الملكة أنها لن تستجيب له، وأنها لن تمثل أمام مجلس البلاط ولن تعود إلى مصر إلا إذا أعيد لفتحية لقبها وأقر الملك والحكومة زواجها من رياض أفندى، وفى مواجهة استهانة الملكة حاولت القاهرة الضغوط على الحكومة الأمريكية بالتدخل وطرد الملكة ورياض وفتحية، لكن ذلك لم يفلح، وهو ما أدى إلى شن حملة صحفية فى مصر ضد أمريكا، وكان من بين الذين اتخذوا هذ النهج الكاتب الصحفى محمد التابعى الذى رفع الأمر إلى درجة الربط بين رفض أمريكا المطالب المصرية والاعتراف بإسرائيل قائلا: إن الأيام القادمة ستكشف عن أن أعداء مصر والعرب من الصهيونيين لعبوا دورا مهما فى هذه المسألة، وعملوا على إحباط مساعى مصر، وعلى تسهيل وإتمام عقد قران الأميرة فتحية ورياض غالى.
دخل العامل الدينى فى القضية منذ لحظتها الأولى ولم يغادرها حتى انتهت حياة الأميرة فتحية بإطلاق الرصاص عليها من زوجها رياض عام 1976ثم إطلاق الرصاص على نفسه ليموت بعدها بشهور، وكانت كل الظروف مهيئة لتأجيج هذا الجانب، ويستعرضه صلاح عيسى ببراعة فائقة فى مجمل صفحات الكتاب، ويصل فى الفصل الثامن إلى ذروة تأثيره بالشكل الذى طفت معه قضية الطائفية إلى السطح.
والمفارقة فى هذه القصة أنها بدأت بغرس سهام الفرق فى الديانة بين الأميرة فتحية (المسلمة) ورياض غالى (المسيحى)، وسارت على نحو تأكيد الاثنين ومعهما الملكة نازلى على أن رياض ترك المسيحية إلى الإسلام وأن الزواج سيتم طبقا لتعاليم الإسلام، غير أنها انتهت إلى تحول نازلى والأميرتين فتحية وفائزة ورياض غالى إلى المسيحية، واعتنقوا جميعا المذهب الكاثوليكى.
حدث هذا عام 1958 حين أعلنت الملكة نازلى اعتناقها المسيحية، وبررت ذلك بأنها قد نجت من موت محقق على أثر العمليات الجراحية المتكررة التى أجريت لها فى أحد المستشفيات الكاثوليكية، وأنها قد نذرت قبل إجراء إحدى هذه العمليات أن تعتنق الكاثوليكية إذا أمد الله فى عمرها ونجت من الموت، ولهذا رأت أن تفى بنذرها، وأن تعود إلى دين ومذهب جدها الكولونيل «أنتلم أوكتاف سيف» الذى أسلم وتسمى باسم سليمان باشا الفرنساوى، ويرى عيسى أنه غالبا كانت نازلى صاحبة فكرة التحول الدينى والمشجعة عليها، إذ كانت منذ بداية شبابها تؤمن بالسحر والتنجيم وقراءة الفنجان وضرب الرمل واستكشاف الطالع.
كان هذا التحول هو ما مات عليه الثلاثة نازلى ورياض وفتحية، ماتوا وكانت الدنيا غير الدنيا فلم ينشغل الكثيرون بمسألة تحولهم من الإسلام إلى المسيحية، وذلك على العكس تماما من بداية القصة، فكيف بلغت وقتها سخونة العامل الدينى درجة الالتهاب؟
كانت عجينة الدين جاهزة وبها ومنها تنوعت حرب التصريحات، قالت الأميرة فتحية إن الزواج فى الإسلام هو إيجاب وقبول وإشهار، وإن الزواج المدنى تتوافر فيه هذه الأركان جميعا، لكنها رغم ذلك لا تعتبر نفسها متزوجة قبل عقد الزواج طبقا للشريعة الإسلامية، وقال رياض إنه لم يخرج مع الأميرة منذ عرفها قبل أربعة أعوام وحدهما، وإنهما كانا يذهبان إلى السينما والأوبرا وحفلات الموسيقى برفقة حراسهما، وأكد أنه لم ينفرد بزوجته أبدا منذ أحبها، وأنهما برغم عقد الزواج المدنى يقيمان حتى الآن فى غرفتين منفصلتين فى الفندق.
دخل الأزهر والكنيسة على الخط، وعقدت هيئة كبار العلماء اجتماعا بدعوة من وكيل الجامع الأزهر انتهت بصياغة خطاب تم رفعه إلى جلالة الملك حذروا فيه من أن ما حدث به «مساس بالدين وتقطيع لصلة الأرحام فى بيت عريق كريم».
على الضفة المقابلة، وكما يقول صلاح عيسى، فرضت ضرورات الموازنة السياسية والطائفية أن يستنكر الأقباط الزواج كما استنكره المسلمون، وأن يجددوا ولاءهم للعرش وتأييدهم لما اتخذه الملك من إجراءات،فتوجه بطريرك الأقباط «الأنبا يوساب الثانى» إلى قصر عابدين على رأس وفد من كبار رجال الأسر القبطية، وطلبوا رفع فروض الولاء للسدة الملكية، وإبلاغ صاحب الجلالة أسفهم واستنكارهم الشديد لما جرى.
لم يتخلف بشاى أفندى غالى والد رياض فى التعبير عن موجة الغضب فقال للصحف إن الإسلام والمسيحية لا يقران ما حدث ولا يباركانه، وأضاف: «دين الإسلام لا يقر زواج المسلمة من المسيحى، وشريعتنا لا تجيز تكليل المسيحى المعمد إلا بمسيحية، فما أنا وأسرتى وآلى إلا من بعض هذا الشعب الذى يدين بالولاء لـ«فاروق» وأسرته، ولكن هكذا أراد الله ووقع ما لم يكن لى دخل فيه».
صنع دخول الأزهر والكنيسة ووالد رياض غالى وهما فى دوائر القصر، بأن السلاح الدينى سوف يلعب دورا مهما فى المرحلة التالية من الحرب، إذ يمكن استخدام بيان الأزهر لإقناع رجال الدين المسلمين فى أمريكا بعدم إشهار إسلام «رياض غالى» بزعم أن أكبر هيئة دينية فى العالم الإسلامى لا تقر زواجه من الأميرة، كما يمكن استخدام موقف بطريرك الأقباط وتصريحات «بشاى غالى» للرد على زعم رياض نفسه بأن التعصب الدينى هو سبب عدم موافقة الملك على زواجه من الأميرة.
وفى الصحف المصرية تصاعدت حرب التشنيع على الملكة نازلى التى كان يقودها كريم ثابت المستشار الصحفى للملك فاروق، واتسع نطاقها بدرجة أفقدت القدرة على توجيهها أو التحكم فى طلقاتها الطائشة، وسرعان ما بدا التناقض واضحا فى قيادة الحملة بين كريم ثابت وفؤاد سراج الدين باشا وزير الداخلية، إذ لم تكن الحكومة الوفدية راضية عن الحملة لأسباب سياسية واجتماعية، كان من أهمها خشيتها من أنه لن يثير التوسع فى النشر نوازع التعصب الدينى فيؤدى إلى فتنة طائفية، فضلا عن أسباب شخصية تقف على رأسها الصداقة الحميمة التى كانت تربط الملكة نازلى بالسيدة زينب الوكيل حرم رئيس الوزراء وزعيم حزب الوفد، لكن أحدا لم يستجب لرجائه حتى صحف الوفد.
كانت المعلومات الآتية من أطراف المعركة تزيدها اشتعالا، فكيف تواصل ذلك؟
قالت الملكة نازلى فى حديث لصحيفة أخبار اليوم إن فتحية بزواجها من رياض غالى تكسب ثواب الذى كسب لدينه مؤمنا جديدا، فى حين قالت الصحيفة إن والد رياض فى مناحة لأن ابنه اعتنق الإسلام مع أن جده لأبيه قسيس، وجده لأمه هو وهبة مينا بك مدير البطركخانة القبطية سابقا، ويقول صلاح عيسى إن المنافسة الصحفية قادت الصحف دون إدراك منها للعواقب إلى التوسع فى النشر حول قبطية رياض مع التركيز على حقيقة أن جده قسيس، وهى أعطت الرأى العام انطباعا بأنه من رجال الدين المسيحى مع أنه لم يكن كذلك، وقامت جريدة المصرى بنشر حوار مع والد رياض حرص فيه على التأكيد على إخلاصه للعرش وفى نفس الوقت اعتراضه على ما فعله ابنه ووصفه بأنه «لابد وقد فقد عقله»، ويشير عيسى إلى أن الخطاب الرئيسى الذى قصدت إليه «المصرى» من نشر هذا الحديث، وهو التدليل على استنكار الأقباط لما فعله رياض غالى، لم يصل إلى جميع قرائها بالمعنى نفسه إذ كان الجو مشتعلا بالتوتر المكتوم، ويضيف عيسى أنه كان من الطبيعى فى مثل هذا الجو أن يقتنص المتعصبون من عوام المسلمين من حديث الأب التفاصيل التى تخدم هدفهم فى تحويل رياض غالى من فرد إلى كنيسة، ومن عاشق إلى مبشر، ومن شخص إلى طائفة، غير أنها تعدت التأثير على العوام إلى النخبة المثقفة، فوصف على الغاياتى صاحب ورئيس تحرير جريدة «منبر الشرق» الزواج بأنه كارثة مروعة نزلت بمصر المسلمة واعتبر استنكار الأقباط له خداعا ونفاقا.
وما يلفت النظر كما يقول عيسى إن الرؤية الطائفية للحدث امتدت إلى مثقفين نشأوا فى ظل ثورة 1919 التى صهرت عنصرى الأمة فى قومية واحدة ومن بينهم أحمد الصاوى محمد ومحمد التابعى الذى علق:«نعم نحن متعصبون إلى أبعد حدود التعصب لعزة الدين وكرامة الدين»، وقالت جريدة «الأساس» لسان حال الحزب السعدى: «يجب أن يوقف هذا الإهدار المستمر لكرامة مصر وعرشها ودينها الرسمى».
أدى هذا الانغماس الدينى فى القضية إلى ما كان يخشاه الجميع، وهو إثارة الفتنة بين المسلمين والأقباط، وبدأت أنباء هذه الفتنة فى التسلل إلى صفحات الصحف فى سطور سريعة خجولة، وفى زوايا مجهولة، ففى حى مصر القديمة بالقاهرة، رسمت على جدران إحدى الكنائس صور للقسس بصورة مثيرة، وحدثت محاولات للاعتداء عليها، وفى مدينة بنها أخذ بعض جهلاء المواطنين ينظرون شذرا إلى رجال الدين المسيحى فى غدوهم ورواحهم ويسمعونهم تقريعا وكأن لهم يدا فى الأمر، وفى فرشوط بالصعيد تعرض الأقباط لاعتداءات خطيرة وقالوا فى رسالة إلى وزير الداخلية فؤاد سراج الدين باشا، وأخرى إلى الدار البطريركية «إنهم يلتزمون بيوتهم خشية الاعتداء عليهم».
◄رياض قتل فتحية عام 1976 ثم أطلق النار على نفسه ونازلى ارتدت إلى الكاثوليكية تنفيذاً لندر قطعته على نفسها
يمتلك الكاتب الكبير صلاح عيسى قدرة فائقة فى التقاط أحداث تاريخية تبدو على هامش السرد التاريخى التقليدى، ويعطيها عمقا اجتماعيا وسياسيا فيحولها إلى عماد رئيسى فى صنع الزمن الذى وقعت فيه هذه الأحداث، ومن هذه الخلفية يكتسب صلاح عيسى وبحق صفة المؤرخ الذى يقدم لنا التاريخ كوجبة شهية تغذى القلب والعقل، وتسد العجز فى المكتبة العربية.
وفى أحدث كتبه «البرنسيسة والأفندى» الصادر عن دار الشروق يلتقط حدث زواج الأميرة فتحية شقيقة الملك فاروق من رياض، وذلك فى عام 1950، ويغوص فى القصة كعادته ليعطيها خلفيتها الاجتماعية والسياسية بالدرجة التى تؤكد أن الحدث لم يكن عابرا، وإنما هز عرشا، لم يكن الموضوع مجرد زواج وكفى المؤمنين شر القتال، وإنما زواج طرفه زوج مسيحى وزوجة مسلمة، وهذا جانب دينى، وزواج طرفه زوجة «أميرة» من الدم الأزرق، وزوج من طبقة أقل وكل مؤهلاته الوظيفية أن الملكة نازلى اختارته سكرتيرا خاصاً ومستشارا سياسياً لها بعد سفرها إلى أمريكا، تغلغل الحدث فى تأثيره وامتد إلى الأحزاب السياسية، وكاد يصنع فتنة طائفية، من المفيد أن نرصد تداعياته السلبية الآن، ومنه نفهم أيضاً كيف كان يتصرف الملك فاروق، وفى المواجهة أمه الملكة نازلى التى يبدو من كل سطر فى الكتاب أنها سيدة الظل فى كل ما حدث منذ تولى ابنها فاروق العرش عام 1936، ورغم أن الكتاب يحتوى على الكثير والكثير فإننا نتوقف أمام محطة الحدث من زاويته الطائفية، وقبلها مقدمات الأزمة.
تلقى الملك فاروق خبر اعتزام الزواج بصدمة كبيرة، وارتفعت نافورة غضبه الغاضبة أصلا على والدته الملكة نازلى التى كانت مقيمة فى أمريكا مع ابنتها وشقيقته فتحية والأميرة فائزة، وهناك وافقت على تزويج فتحية من رياض غالى «المسيحى».
كان الخبر كفيلا بالتهييج والتحريض والغضب على أكثر من وجه، فمن يكرهون الملك استخدموا القصة ضده، ومن يحبونه زادوا من أسنتهم ضد أمه الملكة نازلى، وبين هؤلاء ذهبت الصحف مذهبها فى التناول طبقا لمواقفها السياسية المسبقة، وبعضها تناول الأمر من زاوية طائفية على اعتبار أن الزوج مسيحى والزوجة مسلمة، وفى السياق أيضا أخذت القضية أبعادا تتعلق بطبيعة الحسب والنسب لكليهما، فالأميرة هى من أصحاب الدم الأزرق، و«العريس» ليس كذلك، فهل يجوز الاختلاط بينهما؟
التهييج والتحريض والغضب شمل إلى جانب الصحف، المؤسسات الرسمية والشعبية من برلمان وأحزاب وأزهر وكنيسة وغيرها، ومن بين كل هؤلاء احتل مجلس البلاط أهمية كبرى فى المواجهة نظرا لأنه كان بمثابة محكمة تتولى دون غيرها كل اختصاصات القضاء المدنى والقضاء الشرعى والمجالس الحسبية فيما يتعلق بالأمراء والأميرات والنبيلات وأعضاء الأسرة المالكة، ومن هذه الخلفية رفع الملك فاروق القضية إلى المجلس لاتخاذ قرار بشأنها وعقد المجلس اجتماعه يوم 16 مايو 1950 لمناقشة ما جاء فى مذكرة الملك التى نصت على الآتى:
«سافرت والدتنا (نازلى) فى صيف 1946 إلى الخارج للمعالجة، واصطحبت معها شقيقتنا «فائقة» و«فتحية»، ويقمن جميعا الآن فى أمريكا ولطول إقامتهن بعيدا عنا، ولصغر سن شقيقتينا ولحالة والدتنا المرضية والنفسية، فقد وقعن جميعا فى شراك بعض من يتصلون بهن، وقد دعوتهن مرارا للعودة بعد إتمام العلاج فلم يذعن، وكان من نتيجة ذلك كله:
أولا.. أتمت والدتنا زواج شقيقتنا «فتحية» التى لم تبلغ سن الرشد ولاتزال تحت وصايتها، بمن يدعى رياض غالى المسيحى الديانة، والذى تقول والدتنا إنه سيشهر إسلامه قبل الزواج، وقد دلت التحريات على سوء سيرته وما أن علمنا بهذا الاعتزام حتى بذلنا المساعى المشار إليها لتلافى هذا الزواج قبل وقوعه، وقد أبلغ سفيرنا فى أمريكا ديواننا بتفصيلات مسعاه لدى والدتنا، فكان ردها عليه، أنه يسعدها ألا يكون صهرها من عائلة مالكة، أو ممن يقال عنه من عائلات عريقة، كما صرحت بأنه لا تهتم بما ينشأ عن هذا الزواج من نتائج، وأنها لا يمكن أن تعدل عن رأيها، وقد بعثنا إليها ببرقية أوضحنا فيها ما يساورنا من الألم، ودعوناها أن تقدر ما ينشأ عن تصميمها على ما اعتزمته من سوء العواقب، فوصلنا منها فى نفس اليوم برقية تقول فيها، بأن عاطفة الأمومة لديها مقدمة على كل اعتبار عام، وهذه المساعى كلها لم تحل دون إصرار والدتنا وشقيقتنا على تنفيذ ما اعتزمتاه، ووقعت المأساة فعلا بإتمام الزواج المدنى يوم 10 من شهر آيار مايو الحاضر (1950).
ثانيا: من يوم سفر والدتنا وشقيقتينا من مصر بلغ مقدار ما صرف إليهن من النقود مبلغ 483.831 جنيها صرف من ذلك مبلغ 178,667 جنيها لحساب والدتنا عن طريق نظارة خاصتنا، ومبلغ 130.000 لحسابها أيضا، عن طريق وكيلها «إلهامى حسين باشا» 174.741 جنيها لحساب شقيقتينا مناصفة بينهما، وعلمنا أن من المبالغ التى صرفت إليهن أودع مبلغ 37,750 جنيها فى البنك الأهلى بمصر لحساب رياض غالى أفندى، وبذلك أصبحت أموالهن عرضة للضياع، ومن أجل ذلك كله، نود أن نقف على ما يشير به المجلس من إجراءات:
أولا: نحو زواج شقيقتنا «فتحية» من رياض غالى أفندى.
ثانيا: نحو والدتنا وشقيقتنا «فتحية وأموالها».
جاءت هذه المذكرة كاشفة للحدث من ناحية موقف فاروق منه، بالإضافة إلى موقف والدته وشقيقته،وجاء ت قرارات «البلاط الملكى» بعد مناقشة مذكرة الملك لتزيد من اشتعال الموقف بين كل الأطراف، وقبل تناول ذلك يستعرض صلاح عيسى تلك القرارات، التى جاءت على النحو التالى:
◄ من حيث إن زواج المسلمة من غير مسلم باطل بطلانا أصليا، ولا يترتب عليه أثر من آثار الزوجية طبقا لأحكام الشريعة الإسلامية، ومن حيث إنه إذا أسلم شخص فعلا وتزوج بمسلمة عريقة فى الإسلام فإن هذا العقد إذا حصل بغير رضا الولى لا يصح، ولذلك قرر المجلس التفريق فورا بين حضرة صاحبة السمو الملكى الأميرة «فتحية» وبين رياض غالى أفندى بالحيلولة بينهما، ووضعت تحت يد حضرة جلالة الملك للمحافظة عليها إلى أن يفصل فى الدعوة، وعلى السلطات المختصة اتخاذ الإجراءات الكفيلة بتنفيذ ذلك.
◄ قرر المجلس منع حضرة صاحبة الجلالة الملكة نازلى من التصرف فى أموالها، وتعيين حضرة صاحب السعادة نجيب سالم باشا، ناظر خاصة جلالة الملك، مديرا مؤقتا على جميع أموالها إلى أن يفصل فى طلب الحجر.
◄ قرر المجلس وقف حضرة صاحبة الجلالة الملكة نازلى عن أعمال الوصاية على حضرة صاحبة السمو الملكى الأميرة فتحية، وتعيين سعادة نجيب سالم باشا وصيا مؤقتا لإدارة أموالها إلى أن يفصل فى طلب عزل صاحب الجلالة الملكة نازلى عن الوصاية.
◄ أبدى المجلس رغبته فى أن تعود حضرة صاحبة السمو الملكى الأميرة فائقة إلى مصر فورا، فإن لم تفعل يشر المجلس بالنظر فى أمرها.
وعلى أثر قرارات البلاط الملكى قرر الملك فاروق حرمان شقيقته فتحية من لقب الإمارة وما يتبع ذلك من حقوق ومزايا، بالإضافة إلى شطب اسمها من كشف أسماء الأميرات المدرجات فى الوقائع المصرية.
أسهمت هذه القرارات فى تأجيج الصراع بين الملكة الأم (نازلى) وبين الملك الابن (فاروق)، وأخذت عناوين رئيسية فى الصحف المصرية والعربية والعالمية، وفى نفس الوقت كما يقول صلاح عيسى إنه كان مفهوما أن كلا من الملكة والأميرة ورياض غالى، لن يغامروا بالحضور إلى القاهرة، ورغم ذلك طبقت شكليات القانون، فأرسلت سكرتارية «مجلس البلاط» الإعلان الموجه إلى الثلاثة إلى وزارة الخارجية المصرية لتبلغهم إياه رسميا وعن الطريق الدبلوماسى، وتكلفهم بالحضور أمام جلسة «مجلس البلاط الملكى» المحدد انعقادها يوم 31 يوليو 1950 للاستماع إلى أقوالهم فى الطلب المقدم من «نجيب باشا سالم» ناظر خاصة جلالة الملك، ونيابة عن جلالته بعزل حضرة صاحبة الجلالة «الملكة نازلى» عن الوصاية على ابنتها القاصر فتحية هانم فؤاد، وتوقيع الحجر على جلالتها وببطلان زواجها من رياض أفندى.
تسلم مدير الفندق الذى تقيم فيه الملكة نازلى الإعلان، وكان رد فعل الملكة أنها لن تستجيب له، وأنها لن تمثل أمام مجلس البلاط ولن تعود إلى مصر إلا إذا أعيد لفتحية لقبها وأقر الملك والحكومة زواجها من رياض أفندى، وفى مواجهة استهانة الملكة حاولت القاهرة الضغوط على الحكومة الأمريكية بالتدخل وطرد الملكة ورياض وفتحية، لكن ذلك لم يفلح، وهو ما أدى إلى شن حملة صحفية فى مصر ضد أمريكا، وكان من بين الذين اتخذوا هذ النهج الكاتب الصحفى محمد التابعى الذى رفع الأمر إلى درجة الربط بين رفض أمريكا المطالب المصرية والاعتراف بإسرائيل قائلا: إن الأيام القادمة ستكشف عن أن أعداء مصر والعرب من الصهيونيين لعبوا دورا مهما فى هذه المسألة، وعملوا على إحباط مساعى مصر، وعلى تسهيل وإتمام عقد قران الأميرة فتحية ورياض غالى.
دخل العامل الدينى فى القضية منذ لحظتها الأولى ولم يغادرها حتى انتهت حياة الأميرة فتحية بإطلاق الرصاص عليها من زوجها رياض عام 1976ثم إطلاق الرصاص على نفسه ليموت بعدها بشهور، وكانت كل الظروف مهيئة لتأجيج هذا الجانب، ويستعرضه صلاح عيسى ببراعة فائقة فى مجمل صفحات الكتاب، ويصل فى الفصل الثامن إلى ذروة تأثيره بالشكل الذى طفت معه قضية الطائفية إلى السطح.
والمفارقة فى هذه القصة أنها بدأت بغرس سهام الفرق فى الديانة بين الأميرة فتحية (المسلمة) ورياض غالى (المسيحى)، وسارت على نحو تأكيد الاثنين ومعهما الملكة نازلى على أن رياض ترك المسيحية إلى الإسلام وأن الزواج سيتم طبقا لتعاليم الإسلام، غير أنها انتهت إلى تحول نازلى والأميرتين فتحية وفائزة ورياض غالى إلى المسيحية، واعتنقوا جميعا المذهب الكاثوليكى.
حدث هذا عام 1958 حين أعلنت الملكة نازلى اعتناقها المسيحية، وبررت ذلك بأنها قد نجت من موت محقق على أثر العمليات الجراحية المتكررة التى أجريت لها فى أحد المستشفيات الكاثوليكية، وأنها قد نذرت قبل إجراء إحدى هذه العمليات أن تعتنق الكاثوليكية إذا أمد الله فى عمرها ونجت من الموت، ولهذا رأت أن تفى بنذرها، وأن تعود إلى دين ومذهب جدها الكولونيل «أنتلم أوكتاف سيف» الذى أسلم وتسمى باسم سليمان باشا الفرنساوى، ويرى عيسى أنه غالبا كانت نازلى صاحبة فكرة التحول الدينى والمشجعة عليها، إذ كانت منذ بداية شبابها تؤمن بالسحر والتنجيم وقراءة الفنجان وضرب الرمل واستكشاف الطالع.
كان هذا التحول هو ما مات عليه الثلاثة نازلى ورياض وفتحية، ماتوا وكانت الدنيا غير الدنيا فلم ينشغل الكثيرون بمسألة تحولهم من الإسلام إلى المسيحية، وذلك على العكس تماما من بداية القصة، فكيف بلغت وقتها سخونة العامل الدينى درجة الالتهاب؟
كانت عجينة الدين جاهزة وبها ومنها تنوعت حرب التصريحات، قالت الأميرة فتحية إن الزواج فى الإسلام هو إيجاب وقبول وإشهار، وإن الزواج المدنى تتوافر فيه هذه الأركان جميعا، لكنها رغم ذلك لا تعتبر نفسها متزوجة قبل عقد الزواج طبقا للشريعة الإسلامية، وقال رياض إنه لم يخرج مع الأميرة منذ عرفها قبل أربعة أعوام وحدهما، وإنهما كانا يذهبان إلى السينما والأوبرا وحفلات الموسيقى برفقة حراسهما، وأكد أنه لم ينفرد بزوجته أبدا منذ أحبها، وأنهما برغم عقد الزواج المدنى يقيمان حتى الآن فى غرفتين منفصلتين فى الفندق.
دخل الأزهر والكنيسة على الخط، وعقدت هيئة كبار العلماء اجتماعا بدعوة من وكيل الجامع الأزهر انتهت بصياغة خطاب تم رفعه إلى جلالة الملك حذروا فيه من أن ما حدث به «مساس بالدين وتقطيع لصلة الأرحام فى بيت عريق كريم».
على الضفة المقابلة، وكما يقول صلاح عيسى، فرضت ضرورات الموازنة السياسية والطائفية أن يستنكر الأقباط الزواج كما استنكره المسلمون، وأن يجددوا ولاءهم للعرش وتأييدهم لما اتخذه الملك من إجراءات،فتوجه بطريرك الأقباط «الأنبا يوساب الثانى» إلى قصر عابدين على رأس وفد من كبار رجال الأسر القبطية، وطلبوا رفع فروض الولاء للسدة الملكية، وإبلاغ صاحب الجلالة أسفهم واستنكارهم الشديد لما جرى.
لم يتخلف بشاى أفندى غالى والد رياض فى التعبير عن موجة الغضب فقال للصحف إن الإسلام والمسيحية لا يقران ما حدث ولا يباركانه، وأضاف: «دين الإسلام لا يقر زواج المسلمة من المسيحى، وشريعتنا لا تجيز تكليل المسيحى المعمد إلا بمسيحية، فما أنا وأسرتى وآلى إلا من بعض هذا الشعب الذى يدين بالولاء لـ«فاروق» وأسرته، ولكن هكذا أراد الله ووقع ما لم يكن لى دخل فيه».
صنع دخول الأزهر والكنيسة ووالد رياض غالى وهما فى دوائر القصر، بأن السلاح الدينى سوف يلعب دورا مهما فى المرحلة التالية من الحرب، إذ يمكن استخدام بيان الأزهر لإقناع رجال الدين المسلمين فى أمريكا بعدم إشهار إسلام «رياض غالى» بزعم أن أكبر هيئة دينية فى العالم الإسلامى لا تقر زواجه من الأميرة، كما يمكن استخدام موقف بطريرك الأقباط وتصريحات «بشاى غالى» للرد على زعم رياض نفسه بأن التعصب الدينى هو سبب عدم موافقة الملك على زواجه من الأميرة.
وفى الصحف المصرية تصاعدت حرب التشنيع على الملكة نازلى التى كان يقودها كريم ثابت المستشار الصحفى للملك فاروق، واتسع نطاقها بدرجة أفقدت القدرة على توجيهها أو التحكم فى طلقاتها الطائشة، وسرعان ما بدا التناقض واضحا فى قيادة الحملة بين كريم ثابت وفؤاد سراج الدين باشا وزير الداخلية، إذ لم تكن الحكومة الوفدية راضية عن الحملة لأسباب سياسية واجتماعية، كان من أهمها خشيتها من أنه لن يثير التوسع فى النشر نوازع التعصب الدينى فيؤدى إلى فتنة طائفية، فضلا عن أسباب شخصية تقف على رأسها الصداقة الحميمة التى كانت تربط الملكة نازلى بالسيدة زينب الوكيل حرم رئيس الوزراء وزعيم حزب الوفد، لكن أحدا لم يستجب لرجائه حتى صحف الوفد.
كانت المعلومات الآتية من أطراف المعركة تزيدها اشتعالا، فكيف تواصل ذلك؟
قالت الملكة نازلى فى حديث لصحيفة أخبار اليوم إن فتحية بزواجها من رياض غالى تكسب ثواب الذى كسب لدينه مؤمنا جديدا، فى حين قالت الصحيفة إن والد رياض فى مناحة لأن ابنه اعتنق الإسلام مع أن جده لأبيه قسيس، وجده لأمه هو وهبة مينا بك مدير البطركخانة القبطية سابقا، ويقول صلاح عيسى إن المنافسة الصحفية قادت الصحف دون إدراك منها للعواقب إلى التوسع فى النشر حول قبطية رياض مع التركيز على حقيقة أن جده قسيس، وهى أعطت الرأى العام انطباعا بأنه من رجال الدين المسيحى مع أنه لم يكن كذلك، وقامت جريدة المصرى بنشر حوار مع والد رياض حرص فيه على التأكيد على إخلاصه للعرش وفى نفس الوقت اعتراضه على ما فعله ابنه ووصفه بأنه «لابد وقد فقد عقله»، ويشير عيسى إلى أن الخطاب الرئيسى الذى قصدت إليه «المصرى» من نشر هذا الحديث، وهو التدليل على استنكار الأقباط لما فعله رياض غالى، لم يصل إلى جميع قرائها بالمعنى نفسه إذ كان الجو مشتعلا بالتوتر المكتوم، ويضيف عيسى أنه كان من الطبيعى فى مثل هذا الجو أن يقتنص المتعصبون من عوام المسلمين من حديث الأب التفاصيل التى تخدم هدفهم فى تحويل رياض غالى من فرد إلى كنيسة، ومن عاشق إلى مبشر، ومن شخص إلى طائفة، غير أنها تعدت التأثير على العوام إلى النخبة المثقفة، فوصف على الغاياتى صاحب ورئيس تحرير جريدة «منبر الشرق» الزواج بأنه كارثة مروعة نزلت بمصر المسلمة واعتبر استنكار الأقباط له خداعا ونفاقا.
وما يلفت النظر كما يقول عيسى إن الرؤية الطائفية للحدث امتدت إلى مثقفين نشأوا فى ظل ثورة 1919 التى صهرت عنصرى الأمة فى قومية واحدة ومن بينهم أحمد الصاوى محمد ومحمد التابعى الذى علق:«نعم نحن متعصبون إلى أبعد حدود التعصب لعزة الدين وكرامة الدين»، وقالت جريدة «الأساس» لسان حال الحزب السعدى: «يجب أن يوقف هذا الإهدار المستمر لكرامة مصر وعرشها ودينها الرسمى».
أدى هذا الانغماس الدينى فى القضية إلى ما كان يخشاه الجميع، وهو إثارة الفتنة بين المسلمين والأقباط، وبدأت أنباء هذه الفتنة فى التسلل إلى صفحات الصحف فى سطور سريعة خجولة، وفى زوايا مجهولة، ففى حى مصر القديمة بالقاهرة، رسمت على جدران إحدى الكنائس صور للقسس بصورة مثيرة، وحدثت محاولات للاعتداء عليها، وفى مدينة بنها أخذ بعض جهلاء المواطنين ينظرون شذرا إلى رجال الدين المسيحى فى غدوهم ورواحهم ويسمعونهم تقريعا وكأن لهم يدا فى الأمر، وفى فرشوط بالصعيد تعرض الأقباط لاعتداءات خطيرة وقالوا فى رسالة إلى وزير الداخلية فؤاد سراج الدين باشا، وأخرى إلى الدار البطريركية «إنهم يلتزمون بيوتهم خشية الاعتداء عليهم».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق