الجمعة، 16 نوفمبر 2012

أسباب الفتاوى الشاذة

أسباب الفتاوى الشاذة

قال فضيلة الشيخ ابن عثمين


العلماء ثلاثة : عالم سلطة يتبع هوى السلطان , وعالم عامة يتبع هوى العامة , وعالم رباني لا يخشى في الله لومة لائم ـ

لا يختلف اثنان من أهل الإسلام في خطورة منصب الفتوى، وعظيم شأنه عند الله وعند الناس. وكيف لا يكون كذلك، وهو مقام التوقيع عن رب العالمين؟


و(إذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله، ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات؟)ـ


ـ(1) والمفتي مخبر عن الله عز وجل، ونائب عن الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، في تبليغ الأحكام الشرعية للأمة


وقد اجتمع فيه مقامان عظيمان في الدين، هما


مقام الاجتهاد، ومقام التعليم والإرشاد


فالأول لتحصيل الحكم الشرعي في النازلة المعروضة


والثاني لبث هذا الحكم، وتبليغه إلى خصوص السائل، أو عموم الأمة
وقد ذكر بعض أهل العلم أن بين المفتي والقاضي تفاوتا في عظم خطورة المنصب، فالقاضي أعظم خطرا من جهة كون حكمه تستباح به الفروج والدماء والأموال، على جهة الإلزام، بخلاف حكم المفتي فلا إلزام فيه. لكن المفتي أعظم خطرا من جهة حكمه عاما، لا يختص بفرد أو جماعة معينة، بخلاف حكم القاضي فهو جزئي مخصوص، ولما كان هذا المنصب بهذه المرتبة السنية، كان تشوف عامة المسلمين – قديما وحديثا - إلى أهله عظيما، وحاجتهم إلى ما يصدر عنهم من الفتاوى والأبحاث جليلة. فحاجة المسلم إلى الفتوى التي تبين له حكم الله، وترشده إلى الحق الذي ينبغي سلوك طريقه، وإلى الباطل الذي ينبغي تنكب سبيله، كحاجته إلى الشراب والغذاء اللذَين بهما قوام بدنه، بل كحاجته إلى الهواء الذي به استدامة حياته. بل لو قيل: إن الحاجة إلى الفتوى أعظم من الحاجة إلى هذا كله، لم يكن بعيدا عن الصواب الحقيق بالقبول، إذ بالفتوى تقوم الأديان، وبها يتقرب المكلف إلى ربه، بفعل ما يحبه، وترك ما يبغضه، فيسلك إلى ما فيه سعادة الدارين



والمسلمون في هذا العصر لا يخرجون عن هذا الأصل، فهم – في أغلب أحواهم - متشوفون إلى أهل الفتوى، حريصون على معرفة أحكام الله عز وجل. وإذا كان منصب القضاء الشرعي مغيبا في أكثر بلاد الإسلام، فإن منصب الفتوى موجود، وكثير من الذين يعتلونه هم من أهله القائمين بحقه أحسن قيام، وإن كان منصبا مفتوحا أيضا لبعض من ليس بينه وبين العلم الشرعي كبير اتصال

وقد انشغل الناس في السنوات الأخيرة، بطائفة من الفتاوى الشاذة العجيبة، التي يصدرها - بين الفينة والأخرى - بعض المتصدرين قبل تمام التأهل العلمي، ما بين داعية، وواعظ ـ


ـ(2) وطالب علم مبتدئ، ومفكر، وكاتب في الصحف السيارة، وأمثال هؤلاء ممن لا ينبغي أن تؤخذ الفتوى العلمية من أحدهم، في نقير ولا قطمير ،، وهذه الفتاوى الشاذة – إذا قورنت بمجموع ما يصدر من الفتاوى المنضبطة - قليلة جدا في عددها، ولكن الضرر بها كبير جدا. وما ذلك إلا بسبب ما يحدث إثر صدورها من أخذ ورد في وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، حتى يصبح النقاش فيها حديث المجالس، تلوكه الألسنة والأقلام، بعلم حينا، وبجهل أحيانا ! وقد صار لخروج هذه الفتاوى، وعرضها على الرأي العام، عادة مألوفة لا تكاد تتخلف. تبدأ بفتوى مغمورة لبعض المنسوبين إلى العلم أو الفكر، في موقع على الشبكة أو صحيفة قليلة الانتشار.



ثم يتكفل بعض أهل الإعلام بنشر الفتوى على وسيلة إعلامية مشتهرة، من صحيفة ذائعة الصيت، أو قناة فضائية يتتبعها ملايين الناس. ويتبرع هذا الصحافي بأن يزيد للفتوى المنشورة سباقا من الإثارة، ولحاقا من التشويق، وقد يزيد – ضغثا على إبالة – فيعقد للفتوى لقاء فكريا، يستدعي له بعض المعارضين، وبعض الموافقين. واسمع حينئذ ما شئت من عصارات الفكر، وأعاجيب التأصيل، ونوادر البراهين؛ في قالب حواري يزري بما يدور في أعرق المجالس النيابية العالمية
ثم تنتقل الفتوى بعد ذلك إلى الشبكة العنكبوتية، وتأخذ حقها من التجاذب والتناطح. وقد تعرض على كبار أهل العلم، فيتكفل بعضهم بما تيسر من البيان العلمي، وفق الميثاق الذي أخذه الله تعالى على العلماء الربانيين؛ وإن كانت أكثر هذه الردود العلمية، لا تتداول إلا في صفوف طلبة العلم، ولا تكاد تجد طريقها إلى وسائل الإعلام. وتمر الأيام والليالي، فلا يبقى من هذا كله في أذهان الناس إلا أن خلافا فقهيا جديدا قد استحدث بعد أن لم يكن، وأن ما لم يكن يخطر ببال العوام إمكانُه في الشرع الحنيف قد صار الآن عندهم من مسائل الخلاف، التي تتنوع فيها الأنظار ما بين متشدد ومتساهل. وقد يداعبك بعض هؤلاء العوام - حين يأتي ذكر المسألة - بابتسامة ماكرة ويقول: (والخلاف رحمة !).ـ


وقد تأملت في السبب الذي يهوّن لبعض هؤلاء المفتين، إخراج مثل هذه الفتاوى العجيبة، فتبين لي أن الأسباب كثيرة جدا، ومتنوعةٌ تنوعَ المؤهلات العلمية، والمكونات الفكرية، والأحوال النفسية، لهؤلاء المتصدرين.



ولكنني ارتأيتُ أن أذكر بعض ما تيسر، وللقارئ أن يزيد من ذلك ما يظهر له.فمن أهم الأسباب : 1- ضعف الملَكة الأصولية، بل قلة الاطلاع على كتب أصول الفقه، وندرة الممارسة لقواعده. ومن المعلوم أن علم أصول الفقه هو الأساس الذي يبتنى عليه علم معرفة الحلال والحرام. والذي يتصدى للفتوى والبحث الفقهي، وهو عريّ من هذا العلم، كالذي يخرج إلى ميدان الوغى بغير سلاح، يوشك أن يولي على عقبيه، مهزوما لا يلوي على شيء. أو هو كالذي يبني العمارة المأهولة الشاهقة، على أساس مائي غير متماسك، يوشك بناؤه أن يخرّ بمن فيه، فيصير أثرا بعد عين. وقد ذكر جماعة من الأصوليين أن الفقيه الحافظ للأقوال والمذاهب لا يعتد بقوله إلا إن كان مجتهدا، بخلاف الأصولي المتمكن من فنه، فإنه يعتبر خلافه وإن كان غير حافظ للأحكام.والحق أن هذا الضعف الأصولي لا يظهر عند هذا المفتي المسكين، ما دام منضبطا في إطار مذهب فقهي معين، أو ملتزما بما عليه جمهور الفقهاء، أو متقيدا بالمشهور العلمي في مجتمعه، وهو الذي عليه كبار شيوخ ذلك المجتمع. وذلك لأنه في هذه الحالة، لا يتجاوز نقل ما حفظه، وبث ما سمعه. ولكنه إذا تكلف عناء البحث المستقل، وكابد مشقة الاجتهاد، لم يلبث أن يقع على أم رأسه، ويخبط خبط العشواء في الظلماء. فتراه يستدل بما لا يصلح أن يكون دليلا إلا عند جماعة المجانين والمبرسمين، ويستنبط بفهمه السقيم من النص ما لا يدل عليه من قريب ولا بعيد، ويرد أفهام العلماء الربانيين، التي صقلها علم أصول الفقه، وهذبها إدمان النظر في استنباطات الفقهاء والأصوليين؛ بفهمه الذي لا رسن له، يكبحه عن الجماح في أودية الباطل
ـ2- ومن الأسباب أيضا أن بعض هؤلاء تلقف بعض القواعد الأصولية العامة، فجعلها شعارا له في بحثه، وإن لم يتقن مصادرها ومواردها، ولم يعرف قيودها وضوابطها. فهو يعمد إلى القاعدة الصحيحة، فيظلمها باستعمالها في غير محلها
وأكثر هذه القواعد ظلما


قاعدة مراعاة مقاصد الشريعة، وقاعدة المصالح والمفاسد. والكلام في بيان الإعمال الصحيح لهاتين القاعدتين، يطول جدا، ولا يحتمله هذا المقال المختصر. ولكن يكفيني هنا أن أقول: إنهما – على ما لهما من شأن عظيم، ومنزلة خطيرة – لا يمكن الاستغناء بهما عن سائر القواعد الأصولية. بل لا يكون إعمالهما إلا للمتبحر في الفقه وأصوله، الذي بلغ فيهما درجة عالية، هي درجة الاجتهاد أو ما يقرب منها.ولا ينقضي عجبي حين أرى بعض العوام أو الطلبة يتكلمون في المقاصد الشرعية، ويستشهدون ببعض كلام الإمام الشاطبي، وهم لمّا يدرسوا بعد ورقات إمام الحرمين في أصول الفقه، فضلا عما فوقه من المتون والكتب الجامعة في هذا الفن ! وهذا السبب يلتقي – عند التحقيق - بالسبب الأول، لأن سوء استعمال القاعدتين من ضعف الملكة الأصولية عموما


ـ3- ومن الأسباب أيضا حب الظهور بمظهر المعتدل أمام عوام الناس لجذبهم إلى الالتزام بالشريعة
وقد يكون هذا المقصد صحيحا في نفسه، ولكنه لا يبيح بحال تمييع الدين، وتحريف أحكام الشرع.ولأجل هذا المقصد حلق جمع من الدعاة لحاهم، وظهروا بالملابس الشبابية الخفيفة، وخلطوا في مجالسهم بين النساء والرجال !
ولأجله غيّر جمع من الوعاظ أساليب خطابهم الدعوي، حتى ما عاد عندهم شيء هو حرام أو لا يجوز، وإنما:
فيه خلاف .. والأفضل أن .. وليتك تفعل .. !ـ
ولأجله صار بعض المنسوبين للدعوة أو العلم يجاهر بفعل المعاصي التي كان العامي الملتزم يستحيي أن يذكرها عن نفسه منذ عقد من الزمان أو عقدين ! وقد قرأت بعيني كلام عالم يذكر عن نفسه سماع فلان وعلان من أهل الطرب، ومشاهدة فلان من أهل المسرح والتمثيل !ـ


وسمعت بأذني كلام (داعية) يتعمد ذكر عناوين الأفلام والمسلسلات الأمريكية، ويذكر عن نفسه أنه يشاهدها !ـ
ولأجل هذا المقصد أفتى أحد الجهلة – فيما نُقل - بإباحة القبلات بين المراهقين والمراهقات في الأماكن العامة، وأن الحجاب عادة وليس واجبا؛ وأفتى آخر بجواز استعمال الأدوات الجنسية قبل الزواج، وبجواز شرب المرأة المتوحمة الخمر
ويتأكد هذا المعنى، إذا كانت الفتوى في شيء عمت البلوى به، حتى نشأ عليه الصغير، وشاب عليه الكبير. فحينئذ يصعب على المفتي المسكين أن يخالف المألوف المتداول بين عوام الناس، لما في تلك المخالفة من مجاهرتهم بما لا يرتضونه، ومجابهتهم بما لا يحبونه. فلا يزال الواقع الطاغي يضغط على المسكين، حتى يجعل نفسه منفصمة بين سبيلين متناقضين، لا يملك الجمع بينهما


موافقة الشرع وإرضاء الناس


ثم لا يلبث أن يجد في قول فقهي شاذ مرذول، ما يمكّنه من هذا الجمع، ولو بهدم بناء الاستدلال الفقهي من أصله. فإذا به يطير بذلك القول فرحا، ويبثه في الناس متهللا محبورا
وأفضل مثال على هذا: مسألة المعازف، فإن الأدلة من الكتاب والسنة على تحريمها من القوة بمكان، وفي التحريم إجماع - أو ما يشبه الإجماع، في أقل الأحوال. ومع ذلك تجد بعض المعاصرين يستميتون في الاستدلال على الإباحة، فيحشدون كل غث من الأقوال، ويتشبثون بكل شبهة يجعلونها دليلا قائما، ويردون كل دليل يخالف هواهم بالاحتمالات العقلية البعيدة.
ولست أشك أن مرجع هذا كله، إنما هو إلى انتشار المعازف في هذا الزمان انتشارا بالغا، حتى لا يكاد يسلم منها مكان. والدليل على ذلك أنهم يحرمون بعض الأشياء التي يكون دليل تحريمها أضعف من دليل تحريم المعازف بكثير


ـ4- ومن الأسباب أيضا حب المخالفة، لأنها - فيما يحسب المسكين - دليل القوة العلمية، والتميز المعرفي، وذلك على قاعدة (خالف تُعرف) !ـ
''فإنما يقلد الجاهل، وإنما يجتهد العالم !ـ''


ـ ''وإذا أنا خرجت من إسار المألوف العلمي في البيئة الذي أنا فيها، وتركتُ تقليد الشائع المتداول، فما ذلك إلا لقوة مداركي العلمية، وجرأتي الفكرية !''ـ وقد يصرح بعضهم بادعاء الشجاعة في هذه المخالفة،
فيقول مثلا: ـ (هذا القول الذي أتبناه، يراه غيري من ولكنهم لا يجرؤون على إظهارهومثل هذا يقال له: إن صح ما تقول – ولا سبيل إلى التحقق من ذلك - أفلا سكتّ كما سكتوا؟


ـ5- ومن الأسباب أيضا أن بعض الدعاة والخطباء قد وقع لهم انفتاح سريع على

الغرب،
وعلى حضارته الأخاذة، التي تبهر الألباب، وتأخذ بمجامع القلوب

وذلك إما عن طريق السفر للدعوة ونحوها، أو عن طريق وسائل الاتصال الحديثة، من قنوات فضائية وشبكة عنكبوتية ونحو ذلك
وقد كانوا قبل ذلك في بيئة منغلقة، شددوا فيها على أنفسهم، دون أن يكون ذلك عن علم راسخ، ولا فقه رصين؛ فلما انفتحوا على غير بيئتهم الأصلية، أفضى بهم ذلك إلى نوع من التحلل، والانسلاخ من القيود، وصاروا يسبّحون بحمد الغرب تأصيلا وتفريعا
والكلام في هذه الأسباب وغيرها يطول بنا جدا
ولكن ما السبيل إلى قطع الطريق أمام هؤلاء المفتونين، الذي يخرجون علينا بهذه الفتاوى الشاذة الغريبة؟
أعظم سبيل إلى ذلك أن ينشر في الناس أن يأخذوا فتاواهم من أهل العلم المعتبرين، ويجتنبوا فتاوى المرتزقة وأنصاف المثقفين







ـ(1)إعلام الموقعين (2/17)ـ
ـ(2)المقصود بهذا من كان متصدرا للدعوة والوعظ دون أن يكون من أهل العلم. وما أكثرهم !ـ

موقع عالمى الذى احيا به

ليست هناك تعليقات: