الاثنين، 23 يناير 2012

الإناء المزعوم للرسول صلى الله عليه وسلم

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وبعد

فقد اطلعت على مقطع الفيديو الذي انتشر عبر شبكات التواصل الاجتماعي حول استقبال إناء النبي صلى الله عليه وسلم في بلاد الشيشان ، وأحب أن أبين بعض النقاط المهمة في هذا الموضوع:

أولاً:

التبرك بآثار الرسول محمد صلى الله عليه وسلم من شعره أو ظفره أو ثوبه، قد ثبت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه في حجة الوداع وقال للحلاق: "اقسم الشعر" فقسمه بين الناس، كما في صحيح البخاري.

ثانياً:

قد وقع التبرك ببعض ءاثاره صلى الله عليه وسلم في عهده وأقره ولم ينكر على المتبرك، وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه،ففي صحيح البخاري أن عبد الله بن سلام الصحابي الذي هو ممن أوتي أجره مرتين قال لأبي بردة: "ألا أسقيك في قدح شرب النبي صلى الله عليه وسلم فيه".

وقد أخرج البخاري في صحيحه أيضًا بإسناده إلى سهل بن سعد الساعدي رضي الله تعالى عنه حديثًا قال فيه: "فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم حتى جلس في سقيفة بني ساعدة هو وأصحابه، ثم قال: "اسقنا يا سهل"، فأخرجت لهم هذا القدح فأسقيتهم فيه، قال أبو حازم: "فأخرج لنا سهل ذلك القدح فشربنا منه تبركًا برسول الله صلى الله عليه وسلم"، قال: "ثم استوهبه بعد ذلك عمر بن عبد العزيز من سهل فوهبه له".

وأخرج البخاري في صحيحه عن عثمان بن عبد الله مولى آل طلحة أنه قال: أرسلني أهلي إلى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، بقدح من ماء [وقبض إسرائيل ثلاث أصابع] من فضة فيه شعر من شعر النبي صلى الله عليه وسلم وكان إذا أصاب الإنسان عين أو شئ بعث إليها مِخْضَبَه، فاطلعت في الجلجل فرأيت شعرات حمرًا. والجلجل شئ يشبه القارورة يحفظ فيه ما يُراد صيانته.

قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله في فتح الباري: "والمراد أنه كان من اشتكى أرسل إناءً إلى أم سلمة فتجعل فيه تلك الشعرات وتغسلها فيه وتعيده فيشربه صاحب الإناء أو يغتسل به استشفاءً بها فتحصل له بركتها".

ثالثاً:

هذه الآثار النبوية سواء كانت جزءاً منه ثم انفصلت عنه، أو خارجة عنه لكنها لامست جسده الطاهر، فهذه هي التي كان الصحابة رضي الله عنهم يتبركون بها ، وربما استمر الأمر على ذلك سنوات معدودات ممن أتى بعدهم، ثم انقرضت الآثار وانقرض تبعًا لذلك هذا التبرك.

رابعاً:

إذا ثبت أن التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم مشروع؛ فلا بد من التنبه للنـتيجة العملية الواقعية للمسألة، وهي: هل يثبت الآن صحة أي أثر من الآثار التي يُقال إنها من الآثار النبوية؟

فلا بد من التثبت فيما يُقال إنه من آثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فنحن أمة إسناد وتثبت، وكما جاء الوعيد في نسبة القول الذي لم يقله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إليه فقد قال صلى الله عليه وسلم ( من كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)رواه البخاري من حديث أنس رضي الله عنه؛ فكذا الأمر في نسبة فعلٍ أو أثرٍ له وهو ليس كذلك، وكما يُعرفُ ثبوت الحديث الشريف بأدلة وضوابط حدَّها علماء السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام، فكذا لا بد من ثبوت ما يُزعم أنه من آثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأدلة وبراهين، و إلا جاز أن يَنسِبَ كلُّ أحدٍ إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يشاء من الآثار والأغراض لأهداف مادية ، أو غير ذلك، فالكذبُ على النبي صلى الله عليه وآله وسلم جريمة ، وجناية على الشريعة، وكما كُذِبَ على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله وفعله، كذلك كُذِبَ عليه بادعاء آثارٍ له، وهي ليست كذلك في الحقيقة.

فالذي عليه العلماء المحققون من المحدّثين أو علماء الآثار أنه لا يثبت شيء من ذلك اليوم البتة.

وقد كان الذين كانوا يملكون شيئًا من آثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ضنينين بما عندهم، فلم يكونوا يُؤثرون به غيرهم، ومنهم من كان حريصًا على أن تُدفن معه تلك الآثار، كما ثبت في صحيح البخاري من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، أنَّ الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بردته إنما سألها ليجعلها كفناً له إذا مات، فذهبت بدفنه.

كما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطى مُغَسِّلة ابنـته زينب -رضي الله عنها- إزاره كي تضعه على جسد ابنـته في قبره، فعَنْ أمّ عَطِيةَ الأنصَاريَّةِ قَالَتْ: دَخَل عَلَيْنَا رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حِينَ تُوُفيَتْ ابنتُهُ زَينبُ، فَقَالَ :"اغْسِلْنَهَا بثَلاَثٍ أوْ خَمس أوْ أكْثرَ مِنْ ذلِكَ، إنْ رَأيتُنَّ ذلِكَ، بمَاء وَسِدْر، وَاجْعَلْنَ في الآخِرَةِ كافُوراً أوْ شَيْئاً مِنْ كافُور فَإذا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَني ". فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ. فَأعطَانَا حِقْوَهُ فقال: " أشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ، تعني إزار".

وبعضُ آثاره، صلى الله عليه وآله وسلم، قد ثبت أنها فُقِدت بعد وفاة صلى الله عليه وسلم، كما ثبت أن خاتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقع من عثمان –رضي الله عنه- في بئرٍ في المدينة يُدعى (أريس)، ففي صحيح البخاري عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ خَاتَمُ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِى يَدِهِ ، وَفِى يَدِ أَبِى بَكْرٍ بَعْدَهُ ، وَفِى يَدِ عُمَرَ بَعْدَ أَبِى بَكْرٍ ، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ جَلَسَ عَلَى بِئْرِ أَرِيسَ - قَالَ - فَأَخْرَجَ الْخَاتَمَ ، فَجَعَلَ يَعْبَثُ بِهِ فَسَقَطَ قَالَ فَاخْتَلَفْنَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ مَعَ عُثْمَانَ فَنَنْزَحُ الْبِئْرَ فَلَمْ نَجِدْهُ

كما نقلت كتب التاريخ، الاختلاف الكبير في مصير البردة والقضيب، فمنهم من قال إنها فُقدت ،ومنهم من قال إنها من ضمن ما أحرقه التـتر في بغداد سنة 656هـ.

قال المؤرخ (أحمد تيمور باشا) في كتابه)الآثار النبوية) معلقا على ما يُوجد من آثار نبوية في (اسطنبول):

"لم نر أحدًا من الثقات ذكرها بإثبات أو نفي، فالله سبحانه أعلم بها، وبعضها لا يسعنا أن نكتم ما يخامر النفس فيها من الريب، ويتنازعها من الشكوك). وعلق أيضًا على موضوع الشعرات المنسُوبة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: إنه من الصعوبة معرفة الصحيح منها من الزائف!"

ويقول خبير الآثار أ.د. عفيف البهنسي:

"إنه تمت دراسة الآثار التي يقال إنها نبوية في متاحف اسطنبول والنـتيجة أنه لا يُمكن إثبات أي شيء منها تاريخيًا، حتى ما يُنسب للصحابة الكرام، وغاية الأمر أن النادر منها يُمكن أن يرقى زمنياً للقرن الأول، دون أن يوجد أي إثبات أثري وتاريخي أنها لفلان من الناس دون غيره."

وقال الشيخ المحدث الألباني رحمه الله:

"ونحن نعلم أن آثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ثياب، أو شعر، أو فضلات: قد فقدت، وليس بإمكان أحد إثبات وجود شيء منها على وجه القطع واليقين".

وفي الختام:

نعلم مما تقدم أن الاحتفاء بهذه الآثار المزعومة هو ضرب من المخالفة لشريعة النبي صلى الله عليه وسلم، نسأل الله الهداية والتوفيق والسداد لجميع المسلمين، وأن يجعلنا ممن اتبع النبي صلى الله عليه وسلم الاتباع الكامل فأحبه الله وغفر له، كما قال تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) آمين.

د.فهد بن سعد المقرن
الأستاذ المشارك بقسم العقيدة -جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- الرياض

ليست هناك تعليقات: